يمكنك أيضاً قراءة العديد من موضوعات قسم أقوال و رؤى فلسفية من خلال هذا الرابط أقوال و رؤى فلسفية
ضحكت ملئ في ، حينما تفوهت ابنتي بعبارات لم تفهم أبعادها ، وأصولها بعد، نظراً لصغر سنها ، وبراءة مشاعرها ، ونقاء سريريتها، كما هو طابع الأطفال في مثل ذلك السن .
ففي يوم من الأيام بعد عودتها من المدرسة ، جلست معها قليلاً كالمعتاد .. نظراً لضيق وقتي ، حتى أطمئن على أحوالها في الدراسة ، وآخر أخبارها في المدرسة .
تطرق الحديث بيننا إلى بعض الشخصيات ، التي تحيط بها في مدرستها ، ونظراً لأهمية ما سمعته منها ، وجدت أنه من اللازم ، والضروري أن أجلس معها وقتاً اطول من المعتاد .
حدثتني عن أربعة أشخاص ، وهو :
1 – زميلتها في المدرسة .
2 – مديرة المدرسة .
3 – إحدى المربيات .
4 – بواب المدرسة .
كانت تتحدث عن أولئك الأشخاص بمنتهى الحب ، والإعجاب ، ولم تفطن إلى بعض الحقائق الهامة ، التي تدور في فلكها شخصية الإنسان .
فحينما تحدثت عن زميلتها ، أفاضت في وصف مشاعر الصدق ، والإخلاص التي تتحلى بها تلك الزميلة مرسلة دون أن تشعر ، سيلاً من الحب ، والحنان يكاد المستمع ، يغرق فيه بين طوفان، كلماتها البيضاء .
كان كذلك هو الحال ، حينما وصفت مديرة المدرسة ، بصفات تشير إلى ما تتمتع به ، تلك السيدة من قيم ، وأخلاق التي وإن دلت على شيء ، فإنما تدل على أنها سيدة قد ارتقت مكاناً عظيماً ، في قمة الهرم الأدبي ، والأخلاقي.
وما إن توجهت دفة الحديث إلى المربية ، حتى أسهبت في وصف مدى الحنان ، والرعايا اللتان تحيط بهما ، كل الأطفال في المدرسة ، حتى أن التلميذات أصبحن يلقبونها بلقب ماما .
وحينما بادرتها بالسؤال عن البواب ، لم تبخل بكلمة واحدة من كلمات الثناء ، على أخلاقه ، وأمانته .
صمت قليلاً حتى أعطي لنفسي برهة ، من الوقت لكي أعقب على ما قالته . لم يطل الصمت كثيراً فقلت لها ، وأنا أتحسس حروفي حتى لا تصاب مشاعرها بأي خلل : ابنتي الحبيبة ، اود أن أعلمك شيئاً هاماً يجب على كل إنسان ، أن يتعلمه .
هذا الشيء هو أننا لا يجب ، أننا نتسرع ، في إصدار أحكامنا على الأشخاص ، سواء أكانت تلك الأحكام ، بالسلب أو الإيجاب ، قبل أن تخبرنا الأيام عن حقيقتهم . بل يجب علينا أن نتحرى الدقة الشديدة ، قبل أن نمنح مشاعرنا ، وثقتنا لمن لا يستحق .
تسرعت كما هي عادة الأطفال قائلة : لا يا أبي ، أنا واثقة تماماً في أولئك الأشخاص .
سألتها عن سر تلك الثقة فقالت : لأنهم طيبون ، ومبتسمون ، ولم أسمع منهم إلا أطيب الحديث .
هنا توقفت قليلاً ، لأقرر إنهاء الجدل حول تلك النقطة ، حتى أمنح الفرصة للتجربة أن تعلمها شيئين :
الأول : أن من الواجب على المرء منا ، أن يتعلم الإصغاء لمن هم أكبر منه سناً ، وكل صاحب علم ، وخبرة .
الثاني : أنه لا يوجد حد ينتهي عنده العلم ، فكل يوم، وكل ساعة ، بل وكل لحظة يستطيع الإنسان ، أن يتعلم فيها الكثير ، والكثير .. فمن لم يتعلم من الأوراق ، سيتعلم من الحياة ، وأول درس ستعلمه الحياة إياه ، هو الندم على ترك العلم من تلك الأوراق .
مرّت أيام ، وجرت أحداث حتى جاءت في يوم وهي تقول لي : أبي أريد أن أعرف ، كيف أصبح في يوم من الأيام فيلسوفة مثلك ؟
نظرت لها بتعجب ، واندهاش ، ، وقلت لها : ومن أنا حتى أكون فيلسوفاً ، ثم سألتها قائلاً : وما السبب الذي دفعك لهذا القول ، ومن أين لك بمعرفة معنى ، وقيمة الفيلسوف ؟
ردت قائلة : لقد كنت على حق يا أبي ، حينما أخبرتني ، أننا يجب ألا نتسرع في إصدار الأحكام على الناس ، سواء أكانت بالسلب ، أو الإيجاب ، وأنه من الواجب علينا ، أن نتحرى الدقة قبل إصدار أي حكم .
أما عن معرفتي لمعنى ، وقيمة الفيلسوف ، فالفضل في ذلك يرجع بعد الله سبحانه وتعالى إلى معلمتي ، التي قصصت عليها الحوار الذي حدث بيننا ، وما حدث أيضاً بعد الحوار .
فقالت لي يبدو أن والدك فيلسوفاً ، فهو يمتلك رؤية مستقبلية فلسفية ، فهو لم يشأ أن يتركك هكذا ، دون أن يوضح لك حقيقة الأمور ، تحت زعم أنك لا زلتِ صغيرة ، وهو بذلك قد نبه عقلك لمفاهيم ، وإدراكات لم يكن قد وصل لها بعد .
وحينما سألتها عن تعريف الفيلسوف ، أخبرتني بأن التعريف البسيط للفيلسوف .. هو أنه شخص يملك من القيم ، والرؤى ، والفكر ما يمكنه أن يصنع تكاملاً بين ما يراه من تصور فكري ، وبين طبقات المجتمع المختلفة ، في محاولة منه لدمج المجتمع ، بالقيم ، والمثل العليا ، كخطوة على طريق الارتقاء بالنفس البشرية ، كي يمكنها أن تنتشل المجتمع المحيط بها ، من وحل التردي القيمي ، والأخلاقي .
ازداد تعجبي ، واندهاشي مما أسمع ، فلم يكن مني إلا أنني قلت لها : لست أنا حقاً من يستحق لقب الفيلسوف .. بل معلمتك هي الأحق بذلك اللقب ، وعن جدارة .
قالت لي : أبي .. إن معلمتي لم تضع لي رؤية للحياة مثلك ، بل اعطتني وصفاً علمياً ، يمكن أن يوضع في الكتب ، في يوم من الأيام .. يا أبي هناك فرق كبير بين مفكر ، وآخر ناقل للفكر .
غمغمت قائلاً : وها أنا تعلمت منكِ ، درساً جديداً أن جميعناً يُعلّم بعضنا بعض ، فكبيرنا يُعلمنا ، وصغيرنا يطورنا .
سألتها قائلاً : ولكن ما الذي حدث ، بعد ما دار بيننا من حديث ؟
قالت لي : من كنت أظنها صادقة مخلصة ، وجدتها تتأمر علي ، وتقول عني في ظهري ما يؤلمني ، ويبعث الضيق على وجهي .
ومن حسبتها ذات قيم ، وأخلاق سمعتها تتحدث ، مع بعض زميلاتها في أشياء ، أقل ما يمكن أن يقال عنها ، أنها خادشه للحياء ، وما يجعل اللسان يَعِف عن ذكرها ، وتشمئز الأذن لسماعها .
ومن ظننت أنها تفيض حناناً ، ولا تدخر جهداً في رعايتنا ، وجدت أن ذلك كان وهماً كاذباً ، بعد ما أدى إهمالها ، واستهتارها في إصابة إحدى زميلاتي في المدرسة ، ومع ذلك لم تًحرك ساكناً ، وكأن شيئاً لم يحدث .
والذي كنت على قناعة تامة ، بأنه مثال الشرف ، والأمانة ، أجد يده تقتل هذه المعاني ، حينما امتدت على الأرض لتأخذ مبلغاً من المال ، وقع من إحدى التلميذات ، وسمح لنفسه بأخذ حق ما لا يستحق .
عندما عاينت تلك الوقائع ، أدركت ، وفهمت ما كنت تعنيه يا أبي .
أما بالنسبة لي فبعدما حمدت الله على ذلك ، قلت لها بنيتي إن الإنسان حين أن يولد .. يولد بداخله شيء ، لا يشاركه فيه إلا مخلوق واحد ، ذلك المخلوق هو إبليس لعنة الله عليه ، فكما يُجيد ذلك الملعون القدرة على التلون سواء أكان في الشكل ، أو زين الكلام ، كذا هو الإنسان ، فبالرغم من أنه لا يستطيع أن يغير من طبيعته الشكلية إلى أخرى ، إلا أنه يمتلك قدرة أخطر من تغير تلك الطبيعة .
هذه القدرة هي .. مهارة ارتداء الأقنعة على نفس الوجه ، دون أن يتغير شكل ذلك الوجه ، كذا في كلامه فمن يُمكن أن ينافس إبليس ، في القدرة على الإلحان في الكلام ، والإقناع .
فهناك من يستطيع أن يرتدي قناع ، الفضيلة ، أو الأمانة ، أو البر ، أو الصدق ، أو الوفاء ، أو أن يرتدي كل هذه الأقنعة ، وأكثر منها الواحد تلو الآخر ، في لحظات لا يتعدى عددها أصابع اليد الواحدة .
ولهذا فحري بنا ، أن نتأكد أن الشخص الذي نتعامل لا يُجيد ارتداء الأقنعة ، أو على الأقل لا يرتدي إلا قناع واحد ، لا يرتديه سوى الأفاضل من البشر فقط ، وأولئك قلة نادرة .
فهم كالمعدن النفيس ..
وكالدر المكنون ..
والجوهر الثمين ..
الذي أصبح من الصعب .. إيجاده في زمن ..
أصبحت الغالبية العظمى فيه ..
تجيد ارتداء الأقنعة .
تعليقات
إرسال تعليق